|الاسلام دين العدل|
عبدالرحمن الحميدي الشامي
دخل ربعي بن عامر على رستم -أمير جيش الفرس في القادسية- فقال له رستم: ما جاء بكم؟
قال: (الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام..) [تاريخ الطبري 3/520].
هكذا كان يعيش الناس في ظلم وجور قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنذ مبعثه وهو يكرس فكرة العدل في النفوس، والقرآن هو أول من غرس هذه البذرة حتى نمت في صدور المتقين من سلفنا الصالح؛ فكان إقامة العدل عندهم من مقاصد الجهاد، وأهداف الدعوة.
إن الله -جل وعز- ما أرسل رسولًا على مر التاريخ ألا وهيئ معه أسباب التمكين: العلم والقوة؛ لإقامة العدل بين الناس في كل الأمور، بلا ظلم ولا جور، ولا استبداد ولا شرور !
قال الله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) [الحديد:25].
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- : (فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط: وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه) [الطرق الحكمية 1/31].
وعلينا أن نعلم أن العدل لا يمكن تحقيقه كاملًا إلا بمتابعة الشريعة؛ فمن عدل عن الحكم بما أنزل الله فهو ظالم وإن ادعى العدل، لقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) [المائدة:45].
وقوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء:58].
يقول العلامة الشوكاني -رحمه الله- كلامًا دري اللفظ، عسجدي المعنى عند هذه الآية: (والعدل: هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء، إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله؛ فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله، ولا بما هو أقرب إليهما، فهو لا يدري ما هو العدل؛ لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فضلًا عن أن يحكم بها بين عباد الله) [فتح القدير 1/555].
ويقول العلامة عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- كلامًا موفقًا مسددًا: ({وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبر والفاجر، والولي والعدو.
والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به: هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به) [تيسير الكريم الرحمن، ص:183].
إن الإسلام يركز على قضية العدل تركيزًا بالغًا، ويهتم بها اهتمامًا شديدًا، ويجعل العدل ركيزة من ركائزه، وقاعدة من قواعده، ولبنة من لبناته. وأما الظلم فهو أسرع شيء إلى تعجيل نقمة، وتبديل نعمة، وهو قاطع الحياة؛ فإن الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام !
ومن صور العدل في الإسلام:
1- العدل في الحكم: إن الحكم بين الناس لا يكون إلا وفق الأحكام الشرعية؛ فلا يجوز الحكم بشرع سماوي منسوخ، ولا بحكم أرضي ممسوخ، وقضية الحكم بما أنزل الله ليست قضية فرعية، بل هي الفيصل بين الإسلام والكفر؛ فمن استبدل حكم الله بغيره فهو كافر بإجماع المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : (والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه، كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء) [مجموع الفتاوى 3/267].
وقال الإمام ابن حزم -رحمه الله- : (لا خلاف بين اثنين من المسلمين .. أن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام) [الإحكام في أصول الأحكام 5/173].
وقال الإمام ابن كثير -رحمه الله- : (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر؛ فكيف بمن تحاكم إلى “الياساق ” وقدمها عليه؟! من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين) [البداية والنهاية 163 – 17/162].
2- العدل السياسي: إن أي سلطة سياسة يشترط فيها العدالة، ومن ذلك الإمامة العظمى، وولاة الدولة، والوزراء، والقضاة، وأعضاء مجلس الشورى، وأمراء الحرب، ونحوهم.
فلا يجوز تولية فاسق أو ظالم؛ لعدم الوثوق بهم، ولأنهم متهمون في دينهم، وهم مكلفون بمنع الفسق وكف الظلم، فإذا نصب من كان فاسقًا أو ظالمًا في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم. وقد قيل: بالراعي تصلح الرعية، وبالعدل تملك البرية.
يدل على ما ذكرنا قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) [الحجرات:6].
فأمر -جل وعز- بالتبين عند قول الفاسق، ولا يجوز أن يكون الإمام أو الوالي أو القاضي ونحوهم ممن لا يقبل قولهم، ويجب التبين عند حكمهم؛ ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدًا، فلئلا يكون سلطانًا على رقاب الناس أولى.
3- العدل الاقتصادي: أمر الله تعالى بإيفاء الحقوق بالعدل، وأن يعطي المرء من نفسه الواجب ويأخذه، قال تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) [الأنعام:152].
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: … ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم) ابن ماجه (4019).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- موقوفًا أنه قال لأصحاب المكيال والميزان: (إنكم قد وليتم أمرين هلكت فيه أمم سالفة قبلكم) الترمذي (1217).
والمقصود بالأمم الهالكة قبلنا كقوم شعيب كانوا يأخذون من الناس تامًا، وإذا أعطوهم أعطوهم ناقصًا. [مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 5/1950].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلامًا مناسبًا حسنًا: (والكيّال والوزّان الذي يبخس الغير: هو ضامن محروم مأثوم، وهو من أخسر الناس صفقة إذ باع آخرته بدنيا غيره) [مجموع الفتاوى 29/474].
4- العدل الاجتماعي: ضرب لنا الإسلام أروع الأمثلة على العدل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، فمن ذلك: أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم بصرف النظر عن شكل المرء، أو هيئته، أو جنسه، أو لغته، كما قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات:13].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: (أتقاهم) البخاري (3490)، ومسلم (2378).
وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق فقال: (يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى..) [مسند أحمد 38/474].
ومن ذلك أيضًا: أن دماء المسلمين تتكافأ فيما بينهم، يقاد الشريف منهم بالوضيع، والحر بالعبد، والكبير بالصغير، والعالم بالجاهل، والرجل بالمرأة، فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم: يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم..) أبو داود (2751)، وابن ماجه (2685).
ومن العدل الاجتماعي أيضًا: قوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) [الحشر:7].
فكره تعالى أن يكون المال دولة بين الأغنياء دون من هم أحق به من الفقراء، كما كان يعمل في الجاهلية.
يقول الإمام القرطبي -رحمه الله- : (ومعنى الآية: فعلنا ذلك في هذا الفيء، كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفي منها أيضًا بعد المرباع ما شاء، وفيها قال شاعرهم: لك المرباع منها والصفايا.
يقول: كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية) [الجامع لأحكام القرآن 17 – 18/16].
5- العدل الأخلاقي: أمر الله تعالى عباده بالعدل عند الشهادة، ولو كانت على حساب النفس، أو الوالدين والأقربين، فيجب الإقرار بما عليه من الحق لخصمه، وأن يشهد بالحق على القريب والبعيد، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين أن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا) [النساء:135].
بل وحرم الله تعالى على المسلم ظلم عدوه، فقال سبحانه: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) [المائدة:8].
وما أجمل قول الإمام القرطبي -رحمه الله- عند هذه الآية: (ودلت الآية أيضًا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه) [الجامع لأحكام القرآن 3/110].
فالمسلم يعدل حتى مع الكافر إذ أن الكفر ليس سببًا مبيحًا للظلم، والعدل معهم يكون وفق ما قررته الشريعة لا ما جاءنا مكرهًا من معاجم المستشرقين والعلمانيين، والله المستعان.
وفي الختام؛ العدل أساس دوام الملك، ولا دوام مع الظلم، فالعدل من شروط التمكين والظلم من موانعه، وقد قيل: من طال عدوانه زال سلطانه، ومن كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلكه وفناؤه.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : (أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام) [مجموع الفتاوى 28/146].
وكَتَبهُ/ عبد الرحمن الحميدي الشامي
باحث شرعي
عضو رابطة علماء ودعاة سورية
عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
وكيل العلامة د. محمد الددو الشنقيطي في الإجازة والإسناد.