[العلامة ابن باديس، وتعليم المرأة]
الحمد لله ذي الجلال، الذي جعل النساء شقائق الرجال، والصلاة والسلام على مربي الأجيال، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى الصحب والآل، ومن سار على نهجهم إلى يوم المآل، أما بعد:
إن الحرب حول قضايا المرأة كانت ولا زالت على قدم وساق، وألوان من النزاع والشقاق، قد ملأت الآفاق، وأسكرت الآذان اختراق، بين ظلاميين مفسدين للأخلاق، يسعون لئن تكون المرأة سلعة في الأسواق، ينالها الأراذل والفساق، وبين مصلحين دعاة للعفة والوفاق، لا يرضون بزلل وانزلاق، ولا بفساد واختلاق. نعوذ بالله من كثرة الأبواق، وشبهات الاستشراق، ودعوات النفاق.
ومن قضايا المرأة المثارة التي كثر الحديث عنها، والجدال فيها: قضية “تعليم المرأة”، فقد زعم بعض المغرضين الجاهلين، أن الإسلام يُجرِّم تعليم المرأة ويدين، في حين أنه استسلم بعض المنهزمين أمام هذه الدعاوى، وجرائم الفتاوى، فقالوا بمنع تعليم المرأة؛ فهضموا حقها، وأضاعوا مكانتها، ونزعوا هيبتها، واستخفوا بحقوقها وواجباتها، وجهلوا وظيفتها، وعصوا ربها !
ومن بين هؤلاء الدعاة المصلحين الداعين إلى تعلم المرأة، المدافعين عن حقها في العلم: العلامة عبد الحميد بن باديس الجزائري (المتوفى:1358ه) مؤسس “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، الذي لطالما كان مدافعًا منافحًا عن المرأة بعيدًا عن الانحراف والتغريب، والفساد والألاعيب !
1- خطاب الوحي في طلب العلم يشمل الجنسين:
من المعلوم أن خطاب الوحي يشمل الجنسين الذكر والأنثى؛ لاستوائهما في الأحكام، فما وجب على المسلم وجب على المسلمة، والعكس بعكسه، إلا ما خصه الدليل بواحد منهما؛فالنصوص التي تحث على العلم وتذم الجهل تشمل الجنسين الذكر والأنثى وإن جاءت بصيغة المذكر؛ لأن الوحي يخاطب الجنسين معًا بصيغة المذكر لا المؤنث تغليبًا.
وإلى هذا ذهب العلامة ابن باديس بقوله: (فإن مذهب الجماهير وهو المذهب الحق: أن الخطاب بصيغة التذكير شامل للنساء إلا بمخصص يخرجهن من نص إو إجماع أو بضرورة طبيعية؛ لأن النساء شقائق الرجال في التكليف، ولا خلاف في أنه إذا اجتمع النساء والرجال ورد الخطاب أو الخبر مذكرًا على طريقة التغليب) [آثار ابن باديس 2/202].
2- حق المرأة في التعليم:
يبيِّن العلامة ابن باديس أن حق المرأة في التعليم كالرجل تمامًا سواءً بسواء، ومثلًا بمثل؛ لأن (النساء شقائق الرجال) أحمد في [مسنده 6/256]، وأبو داود (204)، والترمذي (105).
فيقول -عليه رحمة الله- : (النساء شقائق الرجال في التكليف، فمن الواجب تعليمهن وتعلمهن، وقد علمهن صلى الله عليه وآله وسلم وأقرهن على طلب التعلم، واعتنى بهن وتفقدهن، كما في حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم. وبلال يأخذ في طرف ثوبه. البخاري (98)) [آثار ابن باديس 2/199].
3- تعلم المرأة طريق مهم للنهوض بالمجتمع الإسلامي:
لا يرى العلامة ابن باديس المساواة بين الرجل والمرأة مطلقًا، بل يرى العدل بينهما؛ لأن المرأة خلقت لوظائف لا تتناسب كلها مع وظائف الرجل، فينبغي تعليم المرأة تعليمًا يناسب طبيعتها وخلقتها ودينها !
وأول ما ينبغي للمرأة تعلمه: هو تصحيح دينها ومعرفة ما لها وما عليها في حياتها الدينية والدنيوية.
يقول ابن باديس كلامًا طويلًا؛ لكن فيه من الحنكة والتجربة ما لا يستغنى عن نقل بعضه دون بعض، فهو قد حلب الدهر أشطره، وعرف حلوه ومره، ومارس نفعه وضره؛ فيقول -رحمه الله- : (المرأة خلقت لحفظ النسل، وتربية الإنسان في أضعف أطواره {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} [الأحقاف:15] فهي ربة البيت وراعيته والمضطرة بمقتضى هذه الخلقة للقيام به. فعلينا أن نعلمها كل ما تحتاج إليه للقيام بوظيفتها، ونربيها على الأخلاق النسوية التي تكون بها المرأة امرأة لا نصف رجل ونصف امرأة. فالتي تلد لنا رجلًا يطير خير من التي تطير بنفسها.
فعلينا أن نعلمها ما تكون به مسلمة، ونعرفها من طريق الدين ما لها وما عليها ونفقهها في مثل قوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا} [الأحزاب:35].
الطريق الموصل إلى هذا: هو التعليم، تعليم البنات تعليمًا يناسب خلقتهن ودينهن وقوميتهن، فالجاهلية التي تلد أبناء للأمة يعرفونها مثل أمهاتنا -عليهن الرحمة- خير من العالمة التي تلد للجزائر أبناء لا يعرفونها، تعليم كل واحد لأهله بما عنده من علم.
ويوم نسلك هذا الطريق في تعليم المرأة، والطريق السابق في تعليم الرجل سلوكًا جديًا نكون -بإذن الله- قد نهضنا بهما نهضة صحيحة نرجو من ورائها كل خير وكمال) [آثار ابن باديس 470 -3/469].
ويبقى السؤال: ما هو التعليم الذي يناسب خلقتها ودينها ووظيفتها غير العلوم الشرعية ؟!
الجواب عن هذا السؤال: هي كل العلوم الدنيوية التي بها صلاح الناس ونفعهم، مع مراعاة المرأة للضوابط الشرعية في طلبها للعلم.
انظر كتابي: [الإملاء في استحباب التعلم والكتابة للنساء، ص:58-61].
يقول ابن باديس -رحمه الله- : (فلنا فيهم -الصحابة- وفيهن -الصحابيات- القدوة الحسنة أن نشرك معنا نساءنا فيما نقوم به من مهام مصالحنا ليقمن بقسطهن مما يليق بهن في الحياة على ما يفرضه عليهن الإسلام من صون، وعدم زينة، وعدم اختلاط، ولن تكمل حياة أمة إلا بحياة شطريها: الذكر والأنثى) [آثار ابن باديس 4/115].
4- مسؤولية تعليم المرأة:
يرى العلامة ابن باديس أن تعليم النساء واجب من واجبات الأولياء والعلماء، وأنهم المسؤولون عما هن فيه من الجهل إن كان التقصير منهم !
يقول -رحمه الله- : (إن الجهالة التي فيها نساؤنا اليوم هي جهالة عمياء، وأن على أوليائهن المسؤولين عنهن إثمًا كبيرًا فيما هن فيه. وأن أهل العلم والإرث النبوي مسؤولون عن الأمة، رجالها ونسائها، فعليهم أن يقوموا بهذا الواجب العظيم في حق النساء بتعليمهن خلف صفوف الرجال، وفي يوم خاص بهن اقتداء بالمعلم الأعظم: عليه وعلى آله الصلاة والسلام) [آثار ابن باديس 200 – 2/199].
5- تعلم المرأة الكتابة:
ذهب العلامة ابن باديس إلى ما ذهب إليه السواد الأعظم من الفقهاء، من جواز تعلم الكتابة للنساء، على الرغم من وجود علماء جهابذة في زمانه قالوا بمنع تعليم المرأة الكتابة، وعلى رأسهم: الإمام العلامة الفقيه خير الدين أبي البركات نعمان بن محمود بن عبد الله الآلوسي البغدادي الحنفي -رحمه الله تعالى- (المتوفى:1317ه). وهو صاحب رسالة (الإصابة في منع النساء من الكتابة).
يقول ابن باديس -رحمه الله- : (تتعلم المرأة الكتابة، وتعلم غيرها، وتتولى تدبير أملاكها وتجارتها، وما تستطيعه من عمل عام، كما تولت الشفاء أمر السوق في بعض الأحيان، ولا شك أن مما أهلها لذلك عند عمر معرفتها بالكتابة) [آثار ابن باديس 4/123].
وقد استدل ابن باديس بالحديث الصحيح أن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: (ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟) أحمد في [مسنده 45/46]، وأبو داود (3887)، والنسائي (7543) وغيرهم.
وهذا الحديث فيه دلالة واضحة على أن تعلم النساء الكتابة جائز غير مكروه.
يقول -رحمه الله- عند هذا الحديث: (وفيه تعليم النساء الكتابة، واستدل به على ذلك جماعة من الأئمة منهم: الخطابي في شارح السنن، وصاحب المنتقى) [آثار ابن باديس 2/202].
واستدل المانعون من تعلم المرأة الكتابة بحديث موضوع “لا تنزلوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل، وسورة النور”، وقد رد ابن باديس بقوله: (يجري على الألسنة ما رواه الطبراني عن الأوسط: عن عائشة مرفوعًا: “لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن الغزل، وسورة النور”. قال الشوكاني: في سنده محمد بن إبراهيم الشامي، قال الدارقطني: كذاب. وكثيرًا ما تكون هذه الأخبار الدائرة على الألسنة باطلة في نفسها معارضة لما صح في غيرها فيجب الحذر منها) [آثار ابن باديس 124 – 4/123].
وهذا الحديث “لا تعلموهن الكتابة” عند ابن حبان والطبراني في سنده محمد بن إبراهيم الشامي، وهو منكر الحديث ومن الوضاعين. وعند البيهقي والحاكم في سنده عبد الوهاب بن الضحاك، وهو متهم متروك الحديث.
وقد فصَّلت هذه المسألة بالكامل في كتابي: [الإملاء في استحباب التعلم والكتابة للنساء، ص:103-125] فراجعه.
6- منع الاختلاط بين الجنسين في التعليم:
لمَّا كان الاختلاط محرمًا في الإسلام؛ لما يترتب عليه من مفاسد وأضرار كثيرة، من نزول العقوبات العامة، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وانعدام الغيرة، وزوال الحياء .. كان موقف العلامة ابن باديس حازمًا من منع الاختلاط بين الجنسين في التعليم.
يقول -قدَّس الله روحه الطيب، وسقى لحده من الرحمة الغمام الصيب- : (لا يجوز اختلاط النساء بالرجال في التعلم، فأما أن يفردن بيوم كما في هذا الحديث، وإما أن يتأخرن عن صفوف الرجال كما مر في حديث ابن عباس-رضي الله عنه- يجعل لتعليم النساء يوم خاص بهن ويتكرر هذا اليوم بقدر الحاجة. ولما كانت الحاجة دائمة فاليوم مثلها) [آثار ابن باديس 2/199].
وختامًا؛ فهذه مقتطفات من كتابات العلامة عبد الحميد بن باديس الجزائري في دفاعه عن قضية تعليم المرأة، وحث الأولياء والعلماء على تعليمها، وتشجيع المرأة على مشاركتها لمهام الرجل فيما حده الشارع الحكيم. وكما قال: لن تكمل حياة أمة إلا بحياة شطريها: الذكر والأنثى.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.
وكتبه/ عبد الرحمن الحميدي الشامي
عضو رابطة علماء ودعاة سورية
عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين