[التباعد بين المصلين خشية العدوى بفيروس كورونا]
بقلم عبد الرحمن الحميدي الشامي
مع ضعف الفيروس في كثير من البلدان، وتقمُّص كثير من المرضى لباس العافية في الأبدان، قامت بعض الحكومات بفتح المساجد للمسلمين، بشرط الالتزام بإجراءات الوقاية والتباعد بين صفوف المصلين، حيث تنصح منظمة الصحة العالمية الناس بالاحتفاظ بمسافة لا تقل عن متر واحد بين الأشخاص؛ حتى لا يتنفس الصحيح قطيرات السعال أو العطاس، فما حكم ترك التراص لهذا العذر، وهل هو معتبر أم هدر ؟
اختلف الفقهاء في حكم تسوية الصفوف في الصلاة على قولين:
القول الأول: أنها سنة، وهو قول المذاهب الفقهية الأربعة.
انظر: [تبيين الحقائق للزيلعي 1/136]، و[درر الحكام لمنلا خسرو 1/396]، و[الجامع لمسائل المدونة لابن يونس 2/657]، و[الفواكه الدواني للنفراوي 1/211]، و[المجموع للنووي 4/301]، و[تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي 2/311]، و[الإنصاف للمرداوي 3/404]، و[كشاف القناع للبهوتي 1/328].
واستدلوا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (… وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة) البخاري (722)، ومسلم (414).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) البخاري (723).
وجه الدلالة: أن إقامة الصفوف سنة مندوب إليها، وليس بفرض؛ لأنه لو كان فرضًا لم يقل -عليه السلام- : (إقامة الصف من حسن الصلاة)؛ لأن حسن الشيء: زيادة على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب، ودل هذا على أن قوله فى حديث أنس: (فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)، أن إقامة الصلاة قد تقع على السنة كما تقع على الفريضة. [شرح صحيح البخاري لابن بطال 2/347].
وأجيب عنه: أن المعنى الذي ذكره ابن بطال يرده ما جاء في صحيح مسلم (433): (سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة)، فإقامة الصفوف من إتمام الصلاة وإكمالها لا زيادة عليها.
ويجاب عنه: أن قوله: (من تمام الصلاة) قد يؤخذ منه أنه مستحب غير واجب؛ لأن تمام الشيء: أمر زائد على وجود حقيقته التي لا يتحقق إلا بها في مشهور الاصطلاح. وقد ينطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به. [إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 1/217].
ويرد عليه: أن هذا الأخذ بعيد؛ لأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع، لا العرف الحادث. [فتح الباري لابن حجر 2/209].
واستدلوا بحكاية الإجماع على استحباب تراص الصفوف وتسويتها. [بداية المجتهد لابن رشد 1/159].
وأجيب عنه: أن من ذكر الإجماع على استحبابه فمراده ثبوت استحبابه، لا نفي وجوبه. [الفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/332].
القول الثاني: أنها واجبة، وهو مذهب الظاهرية، واختيار البخاري، وبدر الدين العيني من الحنفية، وابن حجر من الشافعية، وابن تيمية وابن مفلح من الحنابلة، ونحا إليه الشوكاني، والصنعاني.
انظر: [المحلى لابن حزم 2/372]، و[صحيح البخاري 1/146]، و[عمدة القاري للعيني 5/254]، و[فتح الباري لابن حجر 2/207]، و[الفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/331]، و[النكت لابن مفلح 1/114]، و[نيل الأوطار للشوكاني 3/223]، و[سبل السلام للصنعاني 1/374].
واستدلوا بحديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (… لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) البخاري (717)، ومسلم (436).
وجه الدلالة: الوعيد الشديد على ترك تسوية الصفوف، والوعيد لا يكون إلا في كبيرة من الكبائر؛ فدل على وجوبها.
انظر: [المحلى لابن حزم 2/374].
وأجيب عنه: أن هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيدًا وتحريضًا على فعلها. [الكواكب الدراري للكرماني 5/93].
ويجاب عنه: أنه ليس بسديد؛ لأن الأمر المقرون بالوعيد يدل على الوجوب. [عمدة القاري للعيني 5/254].
واستدلوا بحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) البخاري (723).
وجه الدلالة: أن تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. [المحلى لابن حزم 2/375].
وأجيب عنه من وجهين: الأول: أن استدلال ابن حزم لا يخفى ما فيه، لا سيما أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، يعني أنه رواها بعضهم بلفظ: (من تمام الصلاة) كما تقدم.
الثاني: قوله: وإقامة الصلاة فرض؛ فإقامة الصلاة مطلق، ويراد به فعل الصلاة، ويراد به الإقامة للصلاة التي تلي التأذين لها، وليست إرادة الأول بأولى من إرادة الثاني، إذ الأمر بتسوية الصفوف بعقب الإقامة، وهذين فعل الإمام، أو من يوظفه الإمام، وهو مقيم الصلاة غالبًا.
انظر: [فتح الباري لابن حجر 2/209]، و[النفح الشذي لابن سيد الناس 4/211]، و[نيل الأوطار للشوكاني 3/223].
واستدلوا بأثر أبي عثمان النهدي قال: (كنت فيمن ضرب عمر بن الخطاب قدمه لإقامة الصف في الصلاة) [المحلى لابن حزم 2/378]، و[تاريخ دمشق لابن عساكر 477 – 35/476].
وعن سويد بن غفلة قال: (كان بلال -مؤذن رسول الله- يضرب أقدامنا في الصلاة، ويسوي مناكبنا) [مصنف عبد الرزاق 2/46].
وجه الدلالة: أنه ما كان عمر وبلال -رضي الله عنهما- ليضربا أحدًا ويستبيحا بشرة محرمة على غير فرض. [المحلى لابن حزم 379 – 2/378].
واستدلوا بقول ابن عمر -رضي الله عنهما- : (لأن تقع ثنيتاي أحب إلي من أن أرى فرجة في الصف أمامي ولا أصلها) [مصنف عبد الرزاق 2/56].
وجه الدلالة: أن مثل هذا لا يتمنى في ترك مباح أصلًا. [المحلى لابن حزم 2/379].
واستدلوا بما ورد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قدم المدينة فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف) البخاري (724).
وجه الدلالة: أن أنسًا -رضي الله عنه- حصل منه الإنكار على عدم إقامتهم الصفوف، والمباح لا يكون منكرًا. [المحلى لابن حزم 2/379].
وأجيب عنه: أن الإنكار قد يقع على ترك السنة؛ فلا يدل ذلك على حصول الإثم. [فتح الباري لابن حجر 2/210].
ويرد عليه: أن الإنكار يستلزم المنكر وفاعل المنكر آثم، على أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتسوية. والأصل في الأمر الوجوب إلا إذا دلت قرينة على غيره، ومع ورود الوعيد على تركها وإنكار أنس ظاهر في أنهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من إقامة الصفوف؛ فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم. [عمدة القاري للعيني 5/258].
وأجابوا: أن هذا ضعيف؛ لأنه يفضي إلى أن لا يبقى شيء مسنون؛ لأن التأثيم إنما يحصل عن ترك واجب. [فتح الباري لابن حجر 2/210].
ورد بدر الدين العيني الحنفي بقوله: (قول هذا القائل ضعيف، بل هو كلام الفساد؛ لأنا لا نسلم إن حصول التأثيم منحصر على ترك الواجب، بل التأثيم يحصل أيضًا عن ترك السنة، ولا سيما إذا كانت مؤكدة) [عمدة القاري 5/258].
الترجيح: الراجح -وربي أعلم به- هو القول الثاني القائل بالوجوب؛ لأن الأصل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسوية هو الوجوب، وصرف الأمر إلى الاستحباب يحتاج إلى دليل وهو متعذر هنا، ويتأكد هذا الوجوب لاقترانه بالوعيد الشديد في ذلك.
فمن صلى ولم يسو الصف فصلاته صحيحة مع الإثم، فله أجر الصلاة، وعليه إثم ترك التسوية.
قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- : (ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة) [فتح الباري 2/210].
بناء على ما تقدم؛ فلا حرج في الصلاة مع التباعد بين المصلين خشية العدوى بفيروس كورونا سواء قلنا بوجوب تسوية الصفوف أو سنيتها.
أما على مذهب الجمهور فالأمر أهون وأيسر، قال ابن رشد -رحمه الله- : (وسئل مالك عن صلاة أهل مكة ووقوفهم في السقائف للظل لموضع الحر، قال: أرجو أن يكون خفيفًا. فقيل له: فأهل المدينة ووقوفهم في الشق الأيمن من مسجدهم وتنقطع صفوفهم في الشق الأيسر، قال أرجو أن يكون واسعًا لموضع الشمس.
قال محمد بن رشد: خفف انقطاع الصفوف لضرورة الشمس؛ لأن التراص في صفوف الصلاة مستحب) [البيان والتحصيل 265 – 1/264].
وأما على مذهب القائلين بالوجوب فلا حرج أيضًا لما يلي:
1- أن التباعد خشية العدوى عذر معتبر، والواجبات تسقط للعذر.
قال ابن حزم -وهو أحد القائلين بالوجوب- : (وأما صلاة الفرض فلا يحل لأحد أن يصليها إلا واقفًا إلا لعذر: من مرض، أو خوف من عدو ظالم، أو من حيوان، أو نحو ذلك) [المحلى 2/103].
وقال ابن تيمية -وهو من القائلين بالوجوب أيضًا- : (إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه وتعذر الدخول في الصف صلى وحده للحاجة وهذا هو القياس؛ فإن الواجبات تسقط للحاجة) [مجموع الفتاوى 20/559].
2- أن التباعد هو الطريق لدفع الفيروس عن المصلين، والشريعة لا تأمر بتحصيل واجب تراص الصفوف لاستجلاب مرض يحصد النفوس !
قال القرافي -رحمه الله- : (المعهود في الشريعة دفع الضرر بترك الواجب إذا تعين طريقًا لدفع الضرر) [الفروق 2/123].
3- ما تقرر في القاعدة الفقهية من: جواز دفع أشد المفسدتين بأخفهما. وترك تراص الصفوف فيه محظور واحد، وفعل التراص في ظل الوباء فيه ثلاث محظورات: أخذ العدوى، ونقل البلوى، ونشر الفوضى.
والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
وكتبه/ عبد الرحمن الحميدي الشامي
عضو رابطة علماء ودعاة سورية
عضو رابطة علماء أهل السنة
عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين