التغافل جملة من الاخلاق
الحمد الله ثم الحمدلله وأفضل الصلاة وأتم التسليم على أشرف المرسلين سيدنا محمد رسول الله وبعد :
انطلاقاً من قوله تعالى { ۗ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
ومن قوله تعالى :{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها}
فإننا نقف عند آيات من كتاب الله نبين فيها أقوال السلف والخلف من الصحابة والتابعين ماأخذوه واستنبطوه من دروس وعبر .
يقول تعالى في سورة التحريم بعد بسم الله الرحمن الرحيم {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } [التحريم3]
قبل تبين الفوائد والعبر نوجز معاني الآيات :
النبي أسر إلى زوجته أم المؤمنين حفصة أمرين
▪︎الأمر الأول: تحريم مارية القبطية على نفسه عندما عاشرها في بيت حفصة وقد علمت بالأمر فقال لها النبي أكتمي علي الأمر وإني حرمتها على نفسي .
▪︎الأمر الثاني : أخبرها النبي أن الخلافة من بعده ستكون في أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وهو قول من الأقوال وقيل انه شرب عندها العسل.
ولكن السيدة حفصة أفشت السرين وأخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة وعندما أظهر الله للنبي صل الله عليه وسلم عن طريق جبريل أنها افشت السريِّن عاتبها ولامها رسول الله فقالت له من أخبرك بذلك قال {نبأني العليم الخبير}
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عرّف بعضه وأعرض عن بعض أي لم يعاتب السيدة حفصة بكل ماأفشته إنما عاتبها في أمر مارية وأعرض عن الأمر الآخر .
هنا وقف الصحابة والتابعين رحمهم الله يذكرون الدروس والعبر في ذلك
فقال الحسن البصري رحمه الله :مااستقصى كريم قط
وقال سفيان الثوري :مازال التغافل من شيم الكرام
وقال غيرهم التغافل يطفئ شراً كثيراً.
مانريد أن ننوه عليه هو تغافل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة ، نسميه تغافل أخلاق بل هي جملة من الأخلاق لأن التغافل كرم والكرم من الأخلاق ونسمي التغافل عفو وصفح ومودة ورحمة ولطف ومسامحة وإيثار وهذه كلها جملة من الأخلاق .
إذن بين التغافل وبين هذة الصفات علاقة تلازمية والعكس صحيح ، من يستقصي ويجرد الآخرين يتصف بالكره والبغض والقسوة وبالمجمل بسوء الأخلاق
هل نجد صور للتغافل في كتاب الله ؟ نعم نجده في قوله تعالى :{ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (237 _ البقرة )
نجده في قوله تعالى {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (سورة فصلت2_3)
نجده في قول النبي صلى الله عليه وسلم : “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”
نجده في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ” ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم افشوا السلام بينكم “
نجده عند سيدنا يوسف عليه السلام عندما ألقاه إخوته في غيابت الجب وعانى ماعانى من ألمِ فراقِ أبويه ، حتى حزن عليه نبي الله يعقوب فابيضت عيناه من الحزن ومرت السنوات وقد أصبح نبي الله يوسف عزيز مصر ودخلو عليه إخوته وأصبحت رقابهم بين يديه ، كان بوسعه أن ينتقم منهم أو يضعهم في السجن لكنه اكتفى بقوله لهم : {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [(92)يوسف]
نجده في سيدنا محمد رسول الله عند فتح مكة قائلا لمشركي قريش الذين آذوه وأخرجوه من مكة ووقفوا في وجه دعوته فقال لهم ماتظنون أني فاعلٌ بكم قالوا أخٌ كريم وابن أخٍ كريم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء
ماهي ثمرات التغافل :
عندما نربي أنفسنا على هذه الفضيلة الجامعة للاخلاق ونجعلها منهجا في حياتنا وتعاملاتنا اليومية الصديق مع صديقه والأخ مع أخيه والزوج مع زوجته والاستاذ مع تلميذه والرئيس مع مرؤوسه
1_فإننا سنرقى نحو مجتمع يسوده الإخوة والمحبة والتعاون والتضامن ومن ثم القوة لأن يد الله مع الجماعة
2_التماس رحمة الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ” الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء “
ولاننسى أن النبي صلى الله عليه وسلم أول خطوة قام بها بعد الهجرة لبناء المجتمع الجديد والدولة الجديدة هي الموآخاة بين المهاجرين والأنصار٠
أما الإستقصاء والتجرد وتعري الآخرين فهو سببٌ للتباغض والتنافر بين الناس ومن ثم الكراهية والاحقاد والعداء وهي جملة من الأخلاق الذميمة
نصائح للمستقصي : كما تكونوا يولى عليكم والجزاء من جنس العمل فارحم ترحم وكما تطلب وتستجدي صفح الله وعفوه في الآخرة يوم الحساب فعامل بالمثل
أما واقعنا المعاصر :هو حال المسلمين من الضعف والهوان وتسلط الأعداء لماذا ؟
إنه من واقعنا النفسي بدليل قوله تعالى :{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]
أي ما بأنفسهم من الأخلاق سواء الحميدة الرضية أو الذمية
فإن كانت أخلاقهم رضية بتمتعون (بالمحبة والمودة والرحمة فيما بينهم والاخوة والإيثار )فإن الله يغير حالهم إلى أحسن حال، وإن كانت أخلاقهم ذميمة (التنافر والكره والقسوة والتقصي وغيرها )فإن حالهم سيكون في أسوء حال
وصدق من قال:
إنما الأمم الأخلاق مابقيت …. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
اللهم كما حسنت خلقنا حسن أخلاقنا
والحمدلله رب العالمين