| ما هي أصول الاستنباط العامة في المذهب الظاهري |
بقلم عبدالرحمن الحميدي الشامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، أما بعد :
يعد المذهب الظاهري من أقل المذاهب أصولًا، وقد انفرد الإمام ابن حزم بتدوين أصول مذهبه، وقد رتب ابن حزم أصول استنباطه، وتحدث عنها بالتفصيل وأجملها في أكثر من موضع من كتبه: “الإحكام في أصول الأحكام”، و”النبذة الكافية في أحكام أصول الدين”، و”المحلى”.
وهذه الأصول باختصار واقتصار، هي:
1- القرآن الكريم: وهو أصل علوم الدين، والمصدر الأول للتشريع، فهو الأصل المرجوع إليه، يقول ابن حزم -رحمه الله- : (أيقنا أن الدين قد كمل وتناهى، وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله، فصح بهذه الآية يقينًا -المائدة:3- أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل) [الإحكام في أصول الأحكام 1/10].
ويقول -رحمه الله- : (ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه) [المصدر السابق 1/68].
ويقول -رحمه الله- : (الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها وأنها أربعة، وهي: نص القرآن..) [المصدر السابق 1/71].
ويقول -رحمه الله- : (ولما تبين بالبراهين والمعجزات أن القرآن هو عهد الله إلينا، والذي ألزمنا الإقرار به، والعمل بما فيه، وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الآفاق كلها وجب الانقياد لما فيه؛ فكان هو الأصل المرجوع إليه) [المصدر السابق 1/95].
2- السنة النبوية: وهي المصدر الثاني للتشريع، ولا يُحتج بها إلا في حالتين:
الأولى: ما رواه الثقة مبلغًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: ما نقل بالتواتر مما أجمع عليه علماء المسلمين على نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن حزم -رحمه الله- : (الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله -عز وجل- ، ثم على لسان رسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا -عز وجل- ونهيه وإباحته، لا مبلغ إلينا شيئًا عن الله تعالى أحد غيره، وهو -عليه السلام- لا يقول شيئًا من عند نفسه؛ لكن عن ربه تعالى) [الإحكام في أصول الأحكام 1/10].
ويقول -رحمه الله- : (ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه، ولما أمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم مما نقله عنه الثقات، أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه – عليه السلام-) [المصدر السابق 1/68].
ويقول -رحمه الله- : (الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها وأنها أربعة، وهي: نص القرآن، ونص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه -عليه السلام- نقل الثقات، أو التواتر، وإجماع جميع علماء الأمة، أو دليل منها لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا) [المصدر السابق 1/71].
ولا يُحتج عندهم بخبر مرسل، ولا موقوف، ولا منقطع، ولا رواية فاسق، ولا مجهول الحال عن الله تعالى، ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
انطر: [المحلى 1/72]، و[النبذة الكافية، ص:26-33].
3- الإجماع: وهو إجماع الصحابة عندهم؛ لأنهم شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعوه، فإجماعهم على ما أجمعوا عليه هو الإجماع المفترض اتباعه؛ لأنهم نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله تعالى بلا شك. [النبذة الكافية، ص:18]، و[الإحكام في أصول الأحكام 1/47، 4/147]، و[المحلى 1/75].
ويقسم ابن حزم هذا الإجماع إلى قسمين:
الأول: ما أجمع عليه جميع أهل الإسلام، كوجوب الصلاة، والصيام، وتحريم الميتة، والخنزير.
والثاني: ما شهده جميع الصحابة -رضي الله عنهم- من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو يتيقن أنه عرفه كل من غاب عنه صلى الله عليه وسلم منهم، كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم المسلمون إذا شاؤوا، فهذا لا شك عند كل أحد في أنه لم يبق مسلم في المدينة إلا شهد الأمر، أو وصل إليه.
انظر: [الإحكام في أصول الأحكام 150 – 4/149].
ويشترط الظاهرية لصحة الإجماع شرطين:
الأول: لا إجماع إلا عن توقيف، ولا شك في أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح؛ لأنه منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله تعالى.
الثاني: أن يكون إجماع جميع المؤمنين لا مؤمن من الناس، وأن يمكن الإحاطة بهم ومعرفة أقوالهم، وهذا لا يتصور إلا في الصحابة -رضي الله عنهم- ، ومن مات منهم فهو داخل في الإجماع؛ لأنه لم يمت إلا مؤمنًا بكل ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان حيًا لسلم للوحي المنزل من القرآن، أو البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظر: [الإحكام في أصول الأحكام 148 – 4/147].
4- الدليل: وهو الحكم في أمر ينطبق عليه المعنى المأخوذ من الأصول الثلاثة “الكتاب، والسنة، والإجماع”، فهو مصدر تشريعي رابع مأخوذ من النص، ومن الإجماع.
وله أنواع، وأقسام، وخصائص، يطول عرضها وبسطها.
انظر: [الإحكام في أصول الأحكام 108 – 5/105]، و[الدليل عند الظاهرية، للدكتور نور الدين الخادمي، ص:71-74]، و[ابن حزم حياته وعصره-أراؤه وفقهه، ص:277].
5- الاستصحاب: وهو في اللغة: طلب الصحبة، وهي الملازمة. [القاموس المحيط 1/104].
وفي اصطلاح الأصوليين: استدامة إثبات ما كان ثابتًا، أو نفي ما كان منفيًا. [إعلام الموقعين 3/100].
والاستصحاب عند الظاهرية: هو استصحاب العمل بدلالة النصوص أو الإجماع، فالشرع قد كمل وبين الله فيه على لسان نبيه الحلال والحرام، وكل ما بين حله أو حرمته فهو على حكمه لا يبدل ولا يغير، وكل ما سكت عنه فهو باطل حتى يرد دليل يجيزه؛ لأن الله تعالى أكمل الدين، وترتب على هذا أن كل عقد أو شرط حكمه البطلان لا يتغير ذلك الحكم إلا بدليل.
فالاستصحاب عند الظاهرية إنما هو بقاء الحكم المبني على النص لا بقاء مجرد الأصل، فهو مقيد بأن الأصل يجب أن يكون مبنيًا على النص وليس على مجرد أصل ثابت من الإباحة الأصلية.
انظر: [الإحكام في أصول الأحكام 5/2] وما بعدها، و[الظاهر عند ابن حزم، للدكتور أحمد عيسى، ص:278-279]، و[ابن حزم حياته وعصره-أراؤه وفقهه، ص:367] وما بعدها.
[فصل]: ولا يحل عند الظاهرية الحكم بقياس، ولا بالرأي، ولا بالاستحسان، ولا بقول أحد ممن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يوافق قرآنًا، أو سنة صحيحة؛ لأن كل ذلك حكم بغالب الظن.
فالتقليد عندهم حرام، ولا يحل لأحد أن يأخذ بقول أحد بلا برهان. العامي والعالم في ذلك سواء، وعلى كل أحد حظه الذي يقدر عليه من الاجتهاد (1).
انظر: [المحلى 8/429]، و[النبذة الكافية في أصول الدين: ص:58 -61 -70 -71].
والحمد لله رب العالمين.
كتبه/ عبد الرحمن الحميدي الشامي
باحث شرعي
عضو رابطة علماء ودعاة سورية
عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
وكيل العلامة د. محمد الددو الشنقيطي في الإجازة والإسناد.
وللمزيد من الفائدة يُنظر كتابي: [مذهب الظاهرية في تعليم المرأة].
____________
1- اتفق علماء الأصول على حجية القياس في الأمور الدنيوية، واتفقوا على حجية القياس الذي صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على نفي القياس في التوحيد، ووقع الخلاف في القياس الشرعي في الأحكام. [الوجيز في أصول الفقه 1/240].
فأنكر الظاهرية القياس، وشنعوا على المذاهب الأربعة وغيرهم لقبولهم القياس، وقد ذهب السواد الأعظم من فقهاء الإسلام، والسادة الأعلام، إلى حجية القياس، وأنه أصل وأساس، ومصدر شرعي للناس.
والحق أن القياس حجة شرعية، وقد أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على إثباته، والعمل به، وهو أقوى الحجج في هذه المسألة.
قال الغزالي -رحمه الله- : (والذي ذهب إليه الصحابة -رضي الله عنهم بأجمعهم- ، وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم -رحمهم الله – وقوع التعبد به شرعًا) [المستصفى، ص:283].
وقال ابن عقيل الحنبلي -رحمه الله- : (وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله، وهو قطعي) [إرشاد الفحول 2/102].
وأما التقليد فهو مطلوب من العامي؛ لجهله بالأحكام الشرعية، من أدلتها التفصيلية، وعدم القدرة عنده على الترجيح بين أقوال العلماء، واختيارات الفقهاء !
ولهذا يقول ابن عبد البر -رحمه الله- : (ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقوله: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [الأنبياء:7]. قال: وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره في القبلة) [جامع بيان العلم وفضله 2/310].