هو خير لكم
بقلم عبد الحميد محمد عروق الحسواني
عضو رابطة علماء ودعاة سورية
إن الإنسان قد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة التي تكرهها نفسه، فربما جزع، أو أصابه الحزن وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية, والفاجعة المهلكة لآماله وحياته, فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة, وعطية في رداء بلية, وفوائد لأقوام ظنوها مصائب, وكم أتى نفع الإنسان من حيث لا يحتسب!.
إنها حقيقة قرآنية تبعث في القلوب الطمأنينة والسعادة، حقيقة تقرر أن الأمر كله لله، حقيقة تتلقاها القلوب الفزعة فإذا هي في جو من الأمن والسكينة، وتتلقاها النفوس القانطة فإذا بشعاع الأمل يسري في كيانها.
حقيقة لا يوقن بها إلا مَن رضي بالله حقَّ الرضا، وحقق صدق التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه، واليقين والثقة بوعده وإحسان الظن به -جل وعلا-، وأنه -سبحانه- لا يريد بعباده إلا الخير والصلاح.
حقيقة نحتاجها أمام ما نراه اليوم في واقعنا من حرب علنية وخفية يمارسوها أعداء الدين من الكفار وأذنابهم من المنافقين ودعاة التغريب، وما يكيدون به لهذا الدين وأهله من الاستضعاف والتشويه والابتلاء؛ مما ولد يأسا وإحباطا من تغير الحال، وشعورا بالانهزامية النفسية والهوان والاستكانة.
إنها الحقيقة القرآنية التي قررها ربنا، وعنوانها: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور:11]، وأكدها بقوله: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216]، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء:19].
إن إعمال هذه الحقيقة القرآنية من أعظم ما يملأ القلب طمأنينة وراحة، ومن أهم أسباب دفع القلق الذي عصف بحياة كثير من الناس بسبب موقف من المواقف، أو بسبب قدر من الأقدار المؤلمة في الظاهر جرى عليه في يوم من الأيام.
تأمل في قصة الغلام الذي قتله الرجل المؤمن بأمر الله تعالى؛ فإنه علل قتله بقوله: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) [الكهف:80-81].
وليت من حرم نعمة الولد يتأمل هذه الآية، لا ليذهب حزنه فحسب؛ بل ليطمئن قلبه، وينشرح صدره، ويرتاح خاطره.
وليته ينظر إلى هذا القدر بعين النعمة، وبصر الرحمة، وأن الله تعالى ربما صرف هذه النعمة رحمة به، وما يدريه؟ لعله إذا رزق بولد صار هذا الولد سببا في شقاء والديه وتعاستهما وتنغيص عيشهما! أو تشويه سمعتهما.
تأمل لما مات أبو سلمة -رضي الله عنه- تقول أم سلمة -رضي الله عنها-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أأجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها” إلا أخلف الله له خيرا منها.
قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبى سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه!.
تأمل هذا الشعور الذي انتاب أم سلمة -وهو بلا شك ينتاب بعض النساء اللاتي يبتلين بفقد أزواجهن ويتعرض لهن الخُطاب- ولسان حالهن: ومن خير من أبي فلان؟! فلما فعلتْ أم سلمة ما أمرها الشرع به من الصبر والاسترجاع وقول المأثور، أعقبها الله خيراً لم تكن تحلمُ به، ولا يجول في خلدها.
إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر، وكل إنسان -في تجاربه الخاصة- يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم، ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم.
فكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها، ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل
إن ما يجري على المسلمين من إذلال واستضعاف هو في ظاهره شر وبلاء؛ ولكن مَن يرى الأمور بميزان السماء يعلم أن ذلك بعلم الله وحكمته، ويجزم أن وراءه خيرا ورحمة، وأن العاقبة للمتقين، ويدرك أن النتيجة لن تكون إلا إخراج أجيال أصلب عودا، وأقوى يقينا وإيمانا، وأصفى عقيدة، وأطول نفسا، وأكثر وعيا بحقيقة المعركة التي تدور في الأرض بين دين الله وأعداء الله. وما الصحوة المباركة، وعودة المسلمين إلى دينهم، وتخلصهم من رق العبودية لغير الله، إلا إرهاصات وبشائر، والله يعلم وانتم لا تعلمون.
إن من يؤمن بهذه الحقيقة يورثه ذلك تحقيقا للعبودية لله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ويورثه صبرا على البلايا والمصائب، وقوة في الاحتمال؛ فإن كل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه لا يخلو إما أن يكون عقوبة على ذنب، فهو دواء لمرض، لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامى المرض على الهلاك؛ أو يكون سبباً لنعمة لا تُنال إلا بذلك المكروه.
الإيمان بهذه الحقيقة يورث سعادة القلب وطمأنينته وسكينته، والسلامة من الأحقاد والحسد والشحناء، وأمراض الخوف والطمع، وأمراض الكبر والخيلاء، ويورثه التؤدة والأناة وعدم الاستعجال.
لابد أن نؤمن جميعا أن ما قدَّرَه الله وقضى به هو خير كله، عَلِمَه مَن علمه، وجهِله مَن جهله، فلا تجزعْ من قدَر الله، ولا تقنط من رحمته، ولا تيأس من رحمته، وثِقْ أنَّ من وراء الْمِحَنِ مِنَحاً، وفي ثنايا البلاء رحمةً و عطاءً، والله يعلم وأنتم لا تعلمون .