ضوابط الفتوى والبحث العلمي، فيما يتعلق بمسائل التعامل مع الكفّار.
بقلم الباحث في القضايا المعاصرة:
د. سعد بن عبد الكريم العثمان.
بتاريخ: 14 تشرين الأول 2020 م
لا يخفى على أهل العلم، أنَّه قد وقعت خلال هذه الفترة الحالية، عدة نوازل ومسائل متعلقة بالتَّعامل مع الكفّار، فخرجت على إثرها عدد من الفتاوى الشرعية للجان وهيئات علمية؛ بيّنت أحكام بعض النوازل والمسائل التي وقعت.
وقد أدى خروج بعض هذه الفتاوى في الساحة الإسلامية إلى شيءٍ من التباين والاختلاف في أحكامها، والتنافر والتباعد بين أعلامها، إضافة للحيرة والاضطراب، التي اعترت كثير من المسلمين من جراء هذا الاختلاف، في حين أننا في أمس الحاجة في هذه الأزمات للتقارب والائتلاف والتعاون، وجمع الكلمة على الحق.
فما ضوابط الفتوى والبحث العلمي فيما يتعلق بمسائل التعامل مع الكفّار ؟
إنَّ الفتوى من المناصب الإسلامية الرفيعة، والأعمال الدينية الجليلة، والمهام الشرعية الجسيمة، ينوب فيها الشخص بالتبليغ عن رب العالمين، ويؤتمن على شرعه ودينه، والمفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مخبر عن الله تعالى كالنبي؛ لذلك يجب أن يكون المتصدي للفتوى مؤهلاً، حتَّى يقوم بها خير قيام. ولما كانت القضايا المتعلقة بالتعامل مع الكفّار حساسة ودقيقة، بما يترتب عليها من مناطات خطيرة، تمس حياة المسلم وعقيدته، فقد شمَّرت عن ساعد البحث العلمي، قاصداً جمعَ الأسس والقواعد والضوابط، التي تحكم الفتوى والبحث العلمي المتعلقة بالمسائل المرتبطة بالكفّار، فوجدتها مرتكزة على أربعة ضوابط، وهي:
الأول: توفر أهلية الإفتاء.
والثاني: الالتزام بمنهجية الفتوى.
والثالث: مراعاة المصالح في ظل النصوص.
والرابع: جماعيَّة الفتوى.
الضابط الأول: توفر أهلية الإفتاء:
فالإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع، كثير الفضل؛ لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، والمفتي موقِّع عن الله سبحانه وتعالى.
وقد اشترط العلماء لتوفر الأهلية في المفتي الشروط الآتية:
الشرط الأول: الإسلام: وهذا شرط بديهي؛ لأن المفتي مخبر عن حكم الله، ومبلغ لشرعه، ومطبق أحكامه على الوقائع، فكان لا بد أن يكون مؤمناً بالله وبرسوله وبشرعه.
الشرط الثاني: التكليف: فيجب أن يكون المفتي بالغاً عاقلاً؛ لكي يستوعب خطاب الشارع استيعاباً
صحيحا، ويستشعر خطورة الفتوى وأهميتها.
الشرط الثالث: العدالة: فلا يسأل المستفتي إلا من عرف بالعدالة من خلال الاستفاضة، ولا تقبل فتوى الفاسق؛ لأن العدل غالباً يُطمأن إليه بخلاف الفاسق، فإنه مذموم، وتكون أقواله محل شك.
الشرط الرابع: أن يكون المفتي مجتهداً: فلا بدّ أن يكون عارفاً بكتاب الله، معرفة تمكنه من فهمه، والاستنباط منه على الوجه الصحيح، ومعرفة دلالاته وأحكامه، وعارفاً بالسنة معرفةً تجعله قادراً على استنباط الأحكام، وبيان صحيحها من ضعيفها، ومناهج العلماء في التأليف فيها، ومنهجهم في الجرح والتعديل ودراسة الأسانيد، وباللغة العربية، علماً يمكنه من ضبط الألفاظ وفهمها على الوجه الصحيح، وبأصول الفقه، وبمقاصد الشريعة، ومواقع الإجماع، والقواعد الكلية للفقه الإسلامي، وعارفاً بأحوال عصره وظروف مجتمعه؛ لينزل الأحكام على الوقائع بصورة صحيحة.
الضابط الثاني: الانضباط المنهجي:
ينبغي للمفتي أن يسير في فتواه وفق منهجية محكمة، سواء أكان ذلك في فهمه للواقعة المعروضة عليه، أم في فهمه للحكم الذي يجب أن يفتي به، وعلى هذا فإن الانضباط المنهجي، الذي يلزم المفتي أن يحرص عليه، يأتي على مستويين: مستوى الواقعة، ومستوى الحكم، ونفصل هذا على النحو الآتي:
أولاً: الانضباط المنهجي في فهم الواقعة، ويتحقق بالآتي:
1- جمع المعلومات المتعلقة بموضوع القضية المعاصرة، وإعطاء الواقعة حقها من الإيضاح والاستيعاب والتروي، وفهمها من جميع جوانبها، ومعرفة حقيقتها وأقسامها ونشأتها، والظروف التي أحاطت بها، وأسباب ظهورها، وغير ذلك من الأمور اللازمة لاستيعاب المفتي الموضوع.
2- عدم التسرع في إبداء الحكم؛ لأن التسرع يوقع في الزلل.
3- تحليل القضية المركبة إلى عناصرها الأساسية التي تتكون منها.
4- الاتصال بأهل الاختصاص في موضوع القضية واستفسارهم، والتأكد منهم عن جميع المعلومات المتعلقة بالقضية، وطلب رأيهم وتوضحهم لأي غموض، أو إشكال يعترض المفتي في فهم تلك القضية، وما يحيط بها من ملابسات.
ثانياً: الانضباط المنهجي في فهم الحكم الذي يفتي به:
وذلك بأن يبحث المفتي عن حكم الواقعة المعروضة عليه في كتاب الله تعالى، فإن لم يجد نظر في السنة، كما أن عليه أن ينظر في إجماع العلماء، فلعله يجد في المسألة حكماً مجمعاً عليه فيفتي به، فإن لم يجد في المسألة نصاً ولا إجماعاً، بحث عن حكمها عن طريق القياس، ثم عن طريق القواعد ومقاصد التشريع والأدلة التبعية من: استحسان، واستصحاب، وعرف، وسد ذرائع، ومصالح مرسلة، وغيرها، وعليه أن يجمع بين اتباع النصوص، ورعاية مقاصد الشريعة.
الضابط الثالث: مراعاة مصالح الناس في ظل النصوص:
ما من حكم في الشريعة الإسلامية؛ إلا وفيه مصلحة للناس في دنياهم وآخرتهم، ولا يتصور أن يكون في الشريعة المقطوع بها حكم يضاد مصالح الخلق، أو يكون مجلبة للإضرار بهم.
ومن هنا فإن على المفتي أن يراعي في فتواه مصالح الناس، شريطة ألا يغالي في اعتبار المصلحة إلى حد تقديمها على محكمات النصوص؛ لأن الفتوى التي تتجاوز النصوص بدعوى مراعاة المصلحة تعتبر فتوى باطلة، كما أن المصالح التي يحتج بها في مقابلة النصوص تعتبر مصالح وهمية لا حقيقية، وإن أبرز المصالح التي ينبغي على المفتي مراعاتها هي المصالح المتغيرة، والمصالح المستجدة، والمصالح التي اقتضتها ضرورات العصر وحاجاته، وسنعرض لها على النحو الآتي:
أولاً: مراعاة المصالح المتغيرة: إن كثيراً من الوقائع والأمور القديمة، قد يطرأ عليها من الأوصاف والأحوال ما يغير طبيعتها، أو حجمها أو تأثيرها، ولم يعد يلائمها ما حكم به الأقدمون، أو ما أفتوا به في شأنها، ولذلك لابد من إعادة النظر والاجتهاد فيها، بحسب ما طرأ عليها من تغيُّر، وهذا ما جعل العلماء يقررون وجوب تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال.
ثانياً: مراعاة المصالح المستجدة: إن لكل عصر مشكلاته وواقعه وحاجاته المتجددة، وفي عصرنا وجد الكثير من المستجدات والأحداث والوقائع، التي لم يكن لها وجود في زمن السابقين، ولم يكونوا يعرفونها؛ مما يستدعي علاج هذه المستجدات باجتهادات وفتاوى تبين حكم الله في ذلك، وهذا أمر ضروري لحياتنا الإسلامية، وعلاج لمشكلاتنا المعاصرة.
ثالثاً: مراعاة ضرورات العصر وحاجاته: لقد جد في عصرنا اليوم الكثير من الضرورات والحاجات الماسة، التي لم تكن موجودة في العصور السابقة، وصار لهذه الضرورات والحاجات تأثيرها الكبير في حياة الناس، مما يستدعي وقوف الفقيه عندها، ومراعاتها عند تنزيل الأحكام؛ حتى يأخذ الناس بالأوفق لظروفهم، والأيسر تطبيقاً في حياتهم، ويجنبهم الأقوال الفقهية، التي تعسر عليهم تطبيق الإسلام في حياتهم.
ولذلك فعلى الفقيه المعاصر مراعاة واقع الناس -وخصوصاً في الضرورات والأعذار والحالات الاستثنائية -وعلى المفتي أن يستشعر بأن الناس اليوم في وضع يختلف كثيراً عما كانت عليه أوضاع السابقين، بحيث صار لهم من الحاجات والمشكلات ما لم يكن عند أسلافهم، فيجب مراعاة هذا التغير، وأن يفتي في القضايا المعاصرة في ضوء ملابساتها، ولا يجوز إخضاعها لآراء قديمة، قيلت في ضوء ملابسات مختلفة؛ إذ أن أصحاب تلك الآراء لو جاؤوا اليوم في عصرنا؛ لغيروا من آرائهم تلك، على ضوء الملابسات الجديدة التي طرأت.
الضابط الرابع: جماعية الفتوى:
يقصد بجماعية الفتوى أن تصدر الفتوى بعد تشاور أهل العلم، وتدارسهم للواقعة المعروضة وحكمها؛ لتكون الفتوى بذلك معبرةً عما ينتهون إليه من رأي قائم على تدبر وفهم للكتاب والسنة وقواعد الشريعة، وفهم تام واستيعاب كامل لطبيعة المسألة التي يفتون فيها، وتتأكد ضرورة الفتوى الجماعية في القضايا المستجدة، وخصوصاً تلك التي لها طابع العموم، وتهم جمهور الناس، ويمكن تحقيق جماعية الفتوى من خلال إنشاء المؤسسات، أو المجالس أو الهيئات، التي تنظم تجمع العلماء ومواصلتهم لأعمالهم في الاجتهاد والفتوى، وقد دعا كثير من العلماء في هذا العصر إلى إنشاء المجامع الفقهية، ليتحقق من خلالها جماعية الفتوى، وقد تم إنجاز الكثير من تلك المجامع.
وتبرز أهمية الفتوى الجماعية فيما تحققه من أهداف، لعل من أهمها التالي:
1- تحقيق الفهم التام للواقعة المعروضة، وذلك أن أعضاء مجلس الفتوى يناقشون جوانب وملابسات القضية المعروضة، ويتبادلون الآراء فيها، ويمحصون الأفكار، ويقلبونها على كل الوجوه، مما يجعلهم يفهمون الواقعة فهماً تاماً، ويلمون بها إلماما كاملاً، وهذا أمر في غاية الأهمية، والرؤية الفردية في هذه القضايا تكون قاصرة، فربما نظر الفرد إلى القضية المعقدة والمتشعبة من زاوية، وأهمل بقية الزوايا، فيأتي حكمه عليها قاصراً، بينما الرؤية الجماعية، يتم فيها النظر إلى القضية من كل الوجوه، ويكمِّل العلماء بعضهم بعضاً في فهم تلك الواقعة على الوجه الصحيح.
2- تحقيق البيان الدقيق لحكم الله في الواقعة المعروضة، وذلك أن عمق النقاش بين العلماء حول الحكم الشرعي اللازم لتلك الواقعة، يجعل حكمهم عليها أكثر إصابة ودقةً، كما أن الفتوى الجماعية تكون أكثر بعداً عن الخطأ، أو التأثر بنزعة مذهبية، أو رؤية فردية ضيقة، وأيضاً فإن النظر الجماعي يقرب وجهات النظر، ويقلل مساحة الخلاف، ويعزز ثقة الناس بتلك الفتوى.
3- وقاية الفتوى من الأخطار، وذلك أنه قد يوجد أدعياء ليسوا أهلاً للفتوى، يخرجون على الناس بآراء وأفكار تؤدي إلى البلبلة والحيرة، كما أنه قد يوجد من يتاجر بالدين، فيصدر فتاوى غرارة، يتزلف بها إلى الطغاة، أو يخدم بها أعداء الإسلام، تحت ستار الاجتهاد، وحرية التفكير، طمعاً منه في منافع يجنيها من وراء ذلك، لا يبالي معها بسخط الله، ووقاية للفتوى من هذه الأصناف لابد أن تكون الفتوى جماعية، وليس في هذا حجر على الآراء، أو حكر على التفكير، وإنما هو حماية للأمة من البلبلة، والتشويش في أمر دينها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.